سيرة أبي أحمد (صناعة الإنسان)


     ما زالت الصِوَرُ تتقافزُ في مخيّلتي، وأراها شاخصةً أمام ناظريَّ - الآن - صِوَرُ الماضي البعيد والأمس القريب. شخصيةُ الراحلِ الأديب عبد الوهاب الحسن (أبي أحمد) لها بعدان في لا وعيي، البعد الأول حين كنت طفلًا دون الثامنة، فما زلت أتذكّر كيف كان - رحمه الله - يردّ تحيّتي بأحسن منها إذا ما مررتُ عليه أمام بيته، تلك التحايا الساخنة والممزوجة بابتسامة أبوية جذبت نفسي إليه طوعًا ونما حبُّه في قلبي منذ الطفولة المبكّرة.

    أمّا البعد الثاني فهو أحاديثُ السمرِ ومجالسُ الأدبِ ودفاترُ المعرفةِ التي نثرناها في حضرته نحن الثلاثة جابر الخلف ومحمد المهنا وأنا، كان أبو أحمد الأذنَ التي تصغي لنا، نشرعُ في طرح المواضيع المختلفة في مجلسه، بدءً من القرآنيّات في حقلها الأدبي، مرورًا بالأدب العربي شعرًا ونثرًا، وكذلك المقالات التي تتناول شتّى العلوم والفنون، يقبل فكرةً ويرفض فكرةً أخرى من خلال النقد لا التكميم ومصادرة الرأي، وحسب فقيدنا أنّه لم يمارس علينا دور الوصاية الفكرية؛ بل دأب على تشجيعنا على البوح بما يجول في أذهاننا وكتابة الأفكار المتبلورة التي تنتجها التأملات والقراءة.

    ما لفت انتباهي في شخصية أبي أحمد من بين الكثير من خلاله الحميدة وطبائعه الكريمة: ما شدّني في سيرته وهو تميّزه في صناعة الإنسان، أعني أبنائه، فلا أظن رجلًا يعيش أبناؤه في كنفه ويبرعون في مهنهم وتخصصاتهم العلميّة من لا شيء!!

    لا تكاد تسأل عن أحد أبنائه الذكور أو الإناث، إلّا وتجده قد اجتاز مرحلة دراسية عليا، ابنه الكبير (أحمد) حاصل على الماجستير من جامعة الملك فهد للبترول في علم الفيزياء، وإلى جانب الفيزياء تمرّس في تخصص الاقتصاد، و(حيدر) أستاذ اللغة الإنجليزية بالكلّية التقنيّة بالأحساء حاصل على الماجستير من جامعة البحرين في اللغويات التطبيقيّة. (جاسم) حاصل على البكالوريوس من جامعة الملك فهد للبترول في تخصص الهندسة الكهربائيّة. وأما ربيبه (عدنان) حاصل على ماجستير في إدارة المشاريع الصحيّة. وأمّا الإناث (أمينة) تخرّجت من كلية العلوم الصحيّة بالرياض في تخصص التمريض، ثم حصلت على البكالوريوس في اللغة الإنجليزيّة، وأكملت دراستها في مرحلة الماجستير في تخصص النقد والمسرح. وابنته الثانية (بيان) حصلت على بكالوريوس في تخصص التربية الخاصة.

    هذه الأسرة قدّمت للمجتمع قوى عاملة في تخصصات حيويّة، لهذه التخصصات الأهمية البالغة في نهضة الوطن وتقدمه في مضمار الحضارة؛ وما كانت لترى هذه القوى العاملة النور لو لم يجتهد أبو أحمد في صناعتها، وأيُّ صناعة أصعب من صناعة الإنسان، صناعة العقول والأخلاق معًا، فقد استطاع فقيدنا صناعة أسرته رغم صعوبة الحياة وشظف العيش، لم يملِ على أحدٍ من أبنائه التخصص الذي يدرسه، ترك الخيار لهم، وأعانهم على العلم والمعرفة، وهيّأ لهم مناخًا صالحًا للتحصيل العلمي؛ فآت غرسه ثماره.

    رحل عنّا أبو أحمد في يوم الثلاثاء 11 / 09 / 1443هـ - الموافق 12 / 04 / 2022م، ولم يبرح شعاعُ روحِه يضيء في شغاف قلوب محبيه وجلسائه، رحل جسده الطاهر وبقت محاسن أخلاقه وكرم ضيافته لنا، واروه تحت أطباق الثرى وعطر سجاياه تعبق في جدران الذاكرة، رحم الله أبا أحمد وحشره مع الصادقين.

 


 

 

عبد الرحمن الغانم

16 ذو القعدة 1443هـ

15 يونيو 2022م

تعليقات

المشاركات الشائعة