الجزية وسماحة الإسلام




تناولت في مقالتي هذه موضوع الجزية من زاوية تاريخية, وقد استحسن البعض

 تناول الموضوع من زاوية الحاضر؛ لتكون مقالة عصرية, ربما أعود للجزية يوم ما

 وألبي رغبتهم!
     



       اعتاد الناس على تلقي النصوص القرآنية بقبولٍ تامٍ دون أن تثير لديهم شكوكًا وأسئلة بأنها قد تبدو متناقضةً مع نصوص أخرى، وهذا الأمر عائدٌ إلى الإيمان بأنها من لدن حكيمٌ عليم. ولظهور حركاتٍ فكرية وتياراتٍ علمية؛ يأتي هنا دور علماء الشريعة الغراء ومفكري العالم الإسلامي في معالجة تلك النصوص وبعض الإشكالات التي قد تثار.
      وأحد هذه النصوص التي عادةً ما تثار حولها المناقشة هو نص (آية الجزية) من سورة التوبة, والإشكال الأول هو أن هذا النص, بنيته اللفظية لا تخلو من الشدة والغلظة فقد انتهى بـ (فليعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون), والإشكال الثاني هو أن المسلمين كانوا يعرضون على أهل الكتاب اعتناق الإسلام، فإن أبوا فالجزية، وإن أبوا فالحرب.

      تقول الآية الكريمة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (29، التوبة), وهي آخر سورة نزلت في القرآن الكريم في السنة التاسعة للهجرة, والجزية لم تذكر قط إلا في هذا المورد.

      وفيما يتعلق بسبب النزول فقد أورد الإمام الطبري في تفسيره, والإمام السيوطي في الدر المنثور وابن أبي حاتم في تفسيره, أنها نزلت في السنة التاسعة حين أمر النبي (ص) وأصحابه بغزوة تبوك, والمقصودون في الآية هم نصارى نجران.

      أود معالجة هذا الموضوع مستعينًا ببعض القرائن المتعلقة بآياتٍ أخر نزلت في أهل الكتاب، وبالشواهد التاريخية ذات الصلة بالجزية, مقارنًا إياها بين تعاطي الأمم السابقة (أهل الحضارات القديمة), وبين تعاطي الإسلام مع أهل الذمة الذين كانوا يقطنون داخل جزيرة العرب، وسأستعرض أقوال كبار علماء المسلمين من الطائفتين السنة والشيعة.

      ولكي نستطيع استيعاب هذا النص القرآني علينا دراسة الأجواء التاريخية التي نزل فيها هذا النص, وكما هو معلومٌ فإنّ سورة التوبة هي آخر فرصة أتُيحت لمشركي جزيرة العرب, ولم تكن هذه المضامين التي في السورة جاءت بهذه الشدة؛ إلا لأنها كانت لاحقة لمحاولات ومحاولات من قبل الإسلام لخلق حالة صفاء وتعايش مع رغبة حثيثة في هدايتهم, وكفِّ أذاهم، ودون مجاهرة بالرذائل والمنكرات. فالآية التاسعة والعشرون تتناول فئة معينة من أهل الذمة بلحاظ التبعيض, وهذا القول يذهب إليه الشيخ مرتضى مطهري حيث يقول: "هذه الآية ليست في عموم  أهل الذمة, بل نزلت في المستهترين بالحرمات منهم".

      وبلحاظ آياتٍ أخر امتدحت أهل الكتاب وأثنت عليهم كالآية 62 من سورة البقرة, قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }, وكذلك لو تأملنا الآيتين 82 و 83 من سورة المائدة, قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. على خلاف ما يذهب إليه صاحب الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي وكذا السيد أبو القاسم الخوئي من أنها نزلت في عموم أهل الذمة. ولست بصدد ترجيح رأي من هذين الرأيين, بل يهمني في هذا المقام, أن الآية نقلت لنا صورةً تاريخيةً بشأن تمرد وعناد هؤلاء الجماعة, على خلاف مضامين الآيات التي امتدحت وأثنت على أهل الكتاب كما ذكرت, ففي آية سورة التوبة وصفهم الله بثلاث صفات: (لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, ولا يحرمون ما حرَم الله ورسوله, ولا يدينون دين الحق).

      ومن الناحية التاريخية فالجزية ليست من الأمور التي ابتدعها الإسلام, بل كانت موجودة منذ زمن الآشوريين والبابليين؛ أي من قرابة ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد, فالبشر قد ألفوها، وهي من الأعراف السياسية القديمة, والمؤرخ العراقي الدكتور جواد علي, يذكر في ج1، ف15 من كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام), أن ملوك آشور، والأكديين كانوا يفرضونها على الأعراب. والأديب اللبناني جرجي زيدان, ذكر في ج1 من كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي), أن الرومان كانوا يفرضونها على سكان آسيا الصغرى؛ لحمايتهم من هجمات الفينيقيين, وكان الرومان يفرضون جزية أكثر بكثير مما فرضه الإسلام.

      وقد ورد ذكر الجزية في الكتب المقدسة, ففي العهد القديم (سفر يشوع، الاصحاح 16 , 17), أن بني إسرائيل كانوا يفرضونها على الكنعانيين. وورد ذكر الجزية في العهد الجديد (إنجيل متى، الاصحاح 22), أن قيصرًا فرضها على اليهود. وخلاصة القول في هذه النقطة أن الجزية كانت - كما قلت - عرفًا سياسيًا قديمًا, وهي بمثابة ضريبةٍ تفرض ضمن قيود معينة وفق رؤية اقتصادية سياسية.
     
      أما الإسلام فقد كان سمحًا مع أهل الذمة, حيث إنه أسقط الجزية عن النساء والأطفال والشيوخ وعن الفقراء وكذا الرهبان في الصوامع. وتفرض في المقابل على كل بالغٍ عاقلٍ قادر على حمل السلاح, وهي بمثابة (ضريبة خدمات)؛ لأن أهل الذمة لهم ما للمسلمين من حقوق وحماية أمنية, سواءً حماية من الداخل  أو من الخارج, حتى إن الإمام القرافي ينقل عن ابن حزم الأندلسي في كتابه (مراتب الإجماع), فيقول: "أجمع أهل العلم على أن من أراد أهل الذمة الذين يسكنون معنا, من أرادهم بسوء, وجب علينا نحن المسلمون أن نخرج لهم بالكراع والسلاح, وأن من مات منا فهو شهيد".

      وليس من المعقول أن يترك الحاكم مهمة ضبط الأمن لعامة الناس؛ لأن الحياة ستصبح فوضى وعشوائية, ولكي يستتب الأمن، وتسير الحياة بانتظامٍ لا بد أن يكون الأمن موكلا إلى الدولة. فضلاً عن أنهم معفيون عن دفع الزكاة التي لا تقاس بالجزية, كما يقول وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة: "الجزية أقل قدرًا من الزكاة التي تفرض على المسلمين", ثم إن الإسلام قدّر الجزية بمبلغٍ زهيدٍ مقارنةً بالرومان والآشوريين وغيرهم, ناهيك عن أنه أسقط الجزية عن فئات كثيرة وهذا خلاف الأعراف السياسية في التاريخ, وأي سماحةٍ هذه!!

      لا أريد القول إن الإسلام لم يفرض الجزية بلا مقابل؛ لأن الإشكال كان من حيث المبدأ, وطالما أن الإسلام لم يخرج عن المألوف في الحضارات السابقة, وأنها كما قلت وفق النظم السياسية والاقتصادية, فلا تعارض بين مشروعية الجزية وسماحة الإسلام.



عبد الرحمن علي
17 / 03 / 1438 هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة