رِفقًا بالكتيبة الصفراء

 


" إن مشيتَ على شارعٍ لا يؤدي إلى هاوية. قُل لمن يجمعون القمامة: شكرًا!"
محمود درويش

      قد لا يشعر أحد بمعاناةِ مهمةٍ ما إلا بعد خوض تجربةٍ مماثلة لها أو خوض التجربة ذاتها. هناك العديد من المهن الميدانية الشاقّة، مثل أعمال البناء وأعمال الحفريّات وغيرها, وكل المهن تستحق التقدير بصرف النظر عما إذا كانت ميدانيةٍ أو إدارية. ووظيفة (عامل النظافة), أو ما يطلق عليها في اليابان (مهندس البيئة), هي الوظيفة التي تستحق منا قليلًا من التأمل والوقفة الجادة. ربما يظن البعض أن مقالتي هذه مثل سابقاتها من المقالات التي كُتِبت عن هذه الفئة من العمال, فغالبية الكُتّاب الذين تناولوا موضوع عمال النظافة, وجدتهم قد سلطوا الضوء على موضوعين:

الأول: يتعلق بالحث على إيلاء هذه الفئة شيئًا من الاهتمام, والآخر وقف ندًا لهم مناديًا بضرورة مكافحة (ظاهرة التسول), التي استشرت في هؤلاء العمال حسب وجهة نظر المنادين بهذه القضية. أنا لا أعتقد بمثالية عمال النظافة, ربما يصدر تقصيرٌ من بعضهم، وربما قام بعضهم بالتسول بطريقة غير مباشرة, لكنها برأيي تبقى حالات فردية لا تشكل ظاهرة, شأنها شأن مخالفة رجل الأمن للنظام وشأن المعلم الذي تصدر منه كلمة نابية، أو يصدر منه ما يخل بالأدب العام بخلاف المعهود عن المعلمين.

      عمال النظافة لهم الفضل في ظهور شوارع مدننا وقرانا بهذا النسق الجميل وهذه النّظارة, فبين رجل يكنس حواف الأرصفة وآخر يشذّب أغصان الأشجار، وبين فِرق المركبات الكبيرة التي من خلالها يتم تفريغ حاويات المنازل. والمقابل رواتب متدنية جدًا! والسؤال الذي يتردد صداه في خلدي منذ زمنٍ ليس بقريب: ماذا لو غادر هؤلاء العمال لسببٍ ما, أو أضربوا عن العمل حتى تلبى مطالبهم ولا سيما توفير الآليات التي تسهل مهمتهم, هل سنستطيع التجول في الشوارع والخروج من المنازل إلى العمل دون تأثر حياتنا اليومية؟

      والجانب الآخر الذي أود الإشارة إليه, وهو بمثابة وجهة نظر في قضيةٍ تعددت فيها وجهات النظر حول (ظاهرة التسول) التي يُتّهَمُ بها عمال النظافة. وتتلخص في ثلاث نقاط:

 أولاً: علينا أن نتأمل نمط مهنة هؤلاء العمال, من ناحيتين نفسيةٍ وعضوية! فبحكم احتكاك عمال النظافة بالأوساخ والنفايات, بمختلف أنواعها ـ أجلكم الله ـ وبحكم مرافقتهم لحاويات القمامة في أوقاتهم جلها, فهذا الأمر له مردودٌ سلبيٌ على نفوسهم وعلى جسومهم. فقد أفادني أحد الأطباء, بأن العمال نفسيًا يتعرضون لمرض الاكتئاب, ومن ناحية الأمراض العضوية هم مُعرضون لـ (التسمم الغذائي, والالتهابات الرئوية, والسرطان, وداء السل الرئوي), كفانا الله وإياهم. هذه المخاطر من قبلهم والمكابدة في عملهم الشاق ألا تستحق الالتفات منا؟!

      ثانيًا: هل سألنا أنفسنا يومًا عن الشعور الذي ينتاب الأم بعد تجشمها عناء تنظيف المنزل وترتيبه, وإذ بأطفالها يضيعون جهدها سدى بإعادة رمي النفايات. ستجد هذه الأم الرؤوم بأطفالها توبخهم بشدة ولا غرابة لو غضبت منهم غضبا شديدا – وربما لا تلام - وياليت أنّ الذي يعيد الأوساخ نفسها في الشوارع طفلٌ (لما انتاب عامل النظافة شعور الأم التي نظفت ورتبت وضاع جهدها بسبب أطفالها).

      ثالثًا: هل عمال النظافة جميعهم يتسولون؟ وهل العمال الذين يلبثون مدةً طويلةً عند إشارات المرور, والذين يتجولون داخل الأحياء بالقرب من المنازل, هم يطلبون المال أم أننا نحن من نبادر؟! إذا كنا - والحال كذلك -  أننا نحن المبادرون بمد شيءٍ من المال لهم؛ فلا حرج عليهم ولا معنى للشكوى والتذمر منهم.

      ولنفرض جدلاً أن رواتبهم ليست متدنية، وأن حقوقهم ملباة, فهل استكثرنا على من يجعل مدينتنا بهذا النقاء البيئي مبلغ خمسة أو عشرة ريالات؟! وفي المقابل يدفع البعض منا أضعاف هذا المبلغ في أمور لا جدوى منها، ولا منفعة, الذين عبرت عنهم في عنوان مقالتي بــ (الكتيبة الصفراء).

      إن هذه المهنة - بحق-  أسمى مهنة, وأكاد أقول إنها لا تقل شرفًا وعظمةً عن مهن (التعليم والطب ومهنة رجال الأمن). وختامًا أقول رِفقًا بهم, بأن لا تعطيهم المال أيها المنادي بهذا المبدأ، ولكن لا ترمِ شيئًا من نافذة سيارتك واحتفظ بمالك كفى الله عامل النظافة سؤالك, رِفقًا بهم بأن لا نرمي أكياس النفايات خارج الحاويات. وأرجو أن نحذوَ حذو المجتمعات المتحضرة في نظافة البيئة، وفي نظرتهم لعامل النظافة, وأن تترسخ فينا هذه الثقافة حتى تغدوَ (أسلوب حياةٍ وليس تصنعًا أو حماسًا موسميًا). ولا يضيرنا أن نبادر بمبادرةٍ جماعيةٍ بأن نقدم لهؤلاء ولو القليل. ولنتذكر قوله تعالى: (وإذا حُييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسنَ منها أو ردوها).

الصورة بعدسة المبدع/ يحيى الصولان, له مني كل الشكر والتقدير. حسابه على الإنستغرام @yahyasulan

عبدالرحمن علي
9/6/1438هـ


تعليقات

  1. هذا لون قميصه رمادي يبدو انه من كتيبة الضباط ��
    شكرا لك بحجم السماء لروعة قلمك

    ردحذف
  2. هذا لون قميصه رمادي يبدو انه من كتيبة الضباط ��
    شكرا لك بحجم السماء لروعة قلمك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة