خطباء الشيعة، والقراءة التاريخية



   حين تستعرض ما يتم طرحه على المنابر الحسينية سواءً في ليالي عاشوراء أو طيلة أيام السنة، من قبل الخطباء الحسينيين، وحتى ما يتم طرحه في أيام الجمع، تجد أن كثيرا من الخطباء، لا يتجشمون عناء البحث العلمي بحيث يقدّمون مادة معرفية رصينة، فالكثير منهم لا يراعي القواعد والنظريات العلمية والمعرفية، ولا أستثني أهمية احترام التخصص.
    ومن السلبيات التي يقع فيها بعض الخطباء، هي إعطاء صبغة للشخصيات الإسلامية تتراكم مع مرور الزمن في أذهان المستمعين، فتتشكّل الشخصية وفق هذه الصبغة. وياليت أن الخطيب يتناول الشخصية بشكلٍ شمولي، وأن لا يدع جانبا يطغى على جانبٍ، ولا سيّما التركيز على تلك الشخصيات بقراءتها قراءةً تراجيدية؛ فاختزال شخصية ربّانية في مأساة حصلت ودرست، وتصوير هذه المأساة بأنها هي الغاية؛ ولذا تكاد لا تُذكر الشخصية إلا وتُذكر مأساتها، والنتيجة هي نسيان تعاليمها ونهجها واهمال تراثها العلمي.
    أستمعت مؤخرا إلى محاضرة لأحد الخطباء، وكانت حول المشهد التاريخي الجدلي ألا وهو (الهجوم على بيت الزهراء ع). سأختصر ما قاله الخطيب، وسأذكر تعليقي على ما ذكر. استفتح محاضرته حيث قال: "لم تتعرّض واقعة تاريخية، منذ غابر الزمان لصنوف ألوان الحملات التشكيكية، كما تعرّضت له ظلامة الزهراء ع، منها التبريرية، ومنها التأويلية، ومنها التعتيمية". وذكر أن المشككين في هذه الظلامة ينقسمون إلى قسمين: ١- تشكيك في أصل الوقوع.  ٢- تشكيك في وقوع تلك الأحداث والمفردات. ولعلّه قصد بالأحداث والمفردات، أي التفاصيل التي تُذكر في ثنايا الحادثة. ثم قال إن المشكّكين يستندون إلى أمرين: 1- تضعيف الروايات. 2- مجرد الاستبعاد.
    ثم ناقش الأمر الأول (تضعيف الروايات)، حيث قال إنه ولو من باب التراكم وباب حساب الاحتمالات؛ قطعا لا نستطيع أن نرفض الروايات.  وأما الاستبعاد فعمدته تشكيل قياس اقتراني نتيجته قياس استثنائي، وذكر مثالا على ذلك أن المشكّكين يوردون مقدمتين: 1- كل غيور لا يقبل أن تُضرب زوجته أمامه.  ٢ أن عليًا ع، شجاعٌ لا يهاب أحدًا. والنتيجة التي ينتهون إليها من هاتين المقدمتين: أن الإمام علي ع، لا يصبر على الضيم، ولا يقبل أن تُضرب زوجته.  وهذا الاستبعاد يسمّى (ذوقيًا استحسانيًا)، لا قيمة له عند العلماء!
    ثم بعد ذلك قال إن كل الروايات أجمعت على أن عليًا أمير المؤمنين ع، كان موجودًا في داره، حين هجوم القوم. وطرح سؤالًا، وهو: هل كان أمير المؤمنين ع، جالسًا يتفرّج؟ وأجاب في نقطتين، أ- إنه لم يكن من المتوقع هجوم القوم بعد كل الوصايات من أبيها رسول الله ص، بأن يحفظوه فيها، وأن لا يمسوها بسوءٍ. ب- الهجوم كان مفاجئًا سريعًا مباغتًا، يعني نستطيع أن نقول إنه كان في ثوانٍ متعددة فقط! وقبل أن أذكر تعليقي، أود أن أورد مقدمة ثم أذكر التعليق.

مقدمة:
    التاريخ البشري على مر العصور، هو مجموعة أحداث ووقائع جرت بين جماعات بشرية، وتلك الأحداث لها خلفيات إما (سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية)، والذي يأخذ التاريخ من خلال النقل التاريخي للمؤرخين دون تحليل ودون غربلة لتلك الأحداث وأخْذِها جملةً على أنها من المسلّمات، فهذا لا يفقه في التاريخ. التاريخ له سننه وقوانينه وأبجدياته، وعلى دارس التاريخ أن يفقه هذه الأبجديات والسنن، وإذا أمعنّا النظر طويلا سنجد أن التاريخ يجري وفق نسقٍ يكاد لا يخرج عن مقدمات؛ تفضي إلى نتائج ثابتة يستحيل أن تفضي إلى نتائج مختلفة إذا ما تمت هذه المقدمات. وحتى نستطيع فهم حركة سير الأحداث ونعي أسباب حدوثها؛ فيتوجب علينا دراسة جذور الحركة الاجتماعية ومجموعة الأعراف والتقاليد لأي أمة، وأن ندرس الظواهر السياسية وكذا قراءة الحالة الدينية لأصحاب هذه الأحداث، ومن يضرب بهذه الحيثيات عرض الحائط، ويقرأ التاريخ بقراءة منبثقة من خلفيات مسبقة؛ فلن يستطيع سبر أغوار التاريخ وسيبقى يدور في حلقة مفرغة. والتاريخ الإسلامي، وتاريخ العرب في أقدم عصورهم، ليس بمنأى عن هذه المعادلة. فالمتتبّع لتاريخ العرب سيجد أنهم مرّوا بنفس المراحل التاريخية التي مرَّ بها من كان قبلهم من الأمم والشعوب.

وتعليقي على النقاط التي ذكرها الشيخ، سأدرجه في نقاط وهي:
١- يجدر التساؤل حول هذه الكلمة التي كثيرا، ما نسمعها من الخطباء، وهي (فلان أنكر ظلامة الزهراء ع). هل تفنيد بعض الأحداث التاريخية، بصرف النظر عن شخصيات تلك الأحداث ومكانتهم، هل تفنيدها هو (إنكار بالمعنى السلبي الذي يروّج له الخطباء؟)، أو بالأحرى، لماذا يصر بعض الخطباء على إسقاط ظلال سلبية على وصف هذه الظاهرة الأدبية؟، وكأن من يفنّد بعض تفاصيل الحادثة قد أنكر فضيلة من فضائل الزهراء ع، أو أنكر عصمتها مثلا.

٢- لصالح من، يتم الزّج بجناحي الأمة الإسلامية (السنة والشيعة) في خصومة عنيفة، والتي بسبب التعرض لتفاصيلها تُراق الدماء، وتشتعل الفتنة وتتأجّج الضغائن بينهما، أليس من الحكمة أن يؤصد هذا الباب، ويُدفن هذا المشهد التاريخي في مقبرة التاريخ، طالما أنه لن يغيّر في الحاضر شيئًا، وطالما أن شخصيات هذا الحدث أو ذاك مقدّسة لدى أتباعها، ألا يجدر أن تُترك للمؤرخين وللباحثين التاريخيين؛ ليعطوا قراءةً لهذا المشهد التاريخي، وفق القواعد التاريخية، ويتخطى كلٌ من الشيعة والسنة هذه الحادثة، ولا سيّما أن الدين منها في خير.

٣- الشيخ لعلّه نسي أن المصدر الوحيد الذي وردت فيه هذه الأحداث، هو كتاب (سليم بن قيس الهلالي). وعلى هذا الكتاب الكثير والكثير من علامات الاستفهام، لا يسع المقام لذكرها، ولعلّه لم يقرأ كتب السيّد أبو القاسم الخوئي قدس سره؛ ولذا فقد عوّل على إجابته حين سئل عن التفاصيل التي يذكرها الخطباء بـ (ذلك مشهور معروف بين الناس)!
4- وأما النقطة التي أثارها فضيلة الشيخ، من أنه ولو من باب التراكم وباب حساب الاحتمالات؛ قطعا لا نستطيع أن نرفض الروايات. فهذه النقطة لا أظنها تصمد أمام النقد، لأنه لو كانت ثمة قرائن ولو كانت ثمة احتمالات؛ لما استطاع العامة والخاصة أن يفندوا هذه الروايات - هذا على فرض وجود روايات، وأنها متواترة وليست آحاد- والقضية كلها سياسية كما يعلم الجميع، وليس للقوم أربٌ بضرب الزهراء وبإسقاط جنينها، فهم في غنى عن ذلك كله.

5- قال الشيخ: إن الهجوم لم يكن متوقعًا. فإما أنه لا يعلم بأن الوضع السياسي إبّان وفاة الرسول الأعظم ص، كان يغلي كالمرجل، أو أنه كان يعلم لكنه غض الطرف عن هذا الجانب. وقال أيضًا: إن الهجوم كان مفاجئًا وسريعًا ومباغتًا. ولعلّه نسي أن القوم قد أرسلوا إلى أمير المؤمنين ع، قبل هذه الحادثة لطلب البيعة، وأجابهم بأنه لن يخلع رداءه حتى يتم جمع المصحف، وأنه كان يعلم أن القوم لن يتركوه وشأنه، ثم أنه ما هذه المغالطة في كلمة (ثوانٍ متعددة أو معدودة)!! فهل طرق الباب واستجابة الزهراء ع، والحوار الذي جرى بينها وبين القوم، ثم ضغطها بين الحائط والباب وضربها بالسوط أو بغيره، كل هذا حصل في ثوانٍ معدودة؟ ومن باب تعضيد المطلب، قال إن الزهراء والقوم عند الباب، وأمير المؤمنين في آخر الدار!! وهل كان بيت أبي الحسن ع، كبيرًا بهذا الحد، حتى يكاد من في آخره لا يسمع من بأوّله؟ لم يبقَ بيت الإمام علي ع، إلى يومنا هذا حتى نعرف كم كانت مساحته لنتحقّق من صحة هذه الفرضية، لكن يستحيل أن يكون فسيحًا، ودون القارئ المصادر التاريخية التي اهتمّت بتاريخ المدينة وسيتضح له كم كانت مساحة البيوت.

6- ذكر في طيّ كلامه، أن القرائن التي يوردها (المشكّكون)، ليس لها قيمة لدى العلماء وعبّر عن الاستبعاد الذي يذكرونه بأنه (ذوقيٌ استحسانيٌ)، وسؤالي إلى فضيلة الشيخ: أي علماءٍ قصدت؟ ولا بد أن يكونوا علماء في التاريخ، لأنّنا أمام مشهدٍ تاريخيٍ. ولا أعرف أنا مؤرخًا أو باحثًا تاريخيًا يحترم عقله، ولا يستعين بمثل هذه القرائن لمعرفة مجريات أحداث تاريخية. المؤرخ يستعين بنصوص الكتب السماوية، وبالأحفوريات - إن كان الشيخ يعرف الأحفوريات - ويستعين بالشعر، ويستعين بالجوانب السوسيولوجية، ويستعين بسيكولوجية المجتمعات، وجميع ما ذُكر هي أدوات المؤرخين، ويأتي هذا الخطيب ليقول لنا (لا قيمة لها لدى العلماء، وأنها ذوقية واستحسانية)!

7- ذكر أيضًا، أن عليًا ع، حين اسرع إلى نجدة الزهراء ع، اكتفى بضرب الجاني وبتوبيخه، رغم أننا أمام جريمة قتل - حسب زعمه - (إسقاط الجنين). وسؤالي إلى سماحة الشيخ: في أي كتابٍ تاريخيٍ قرأت سيرة وتاريخ (الرجل العربي)؟ الرجل العربي بطبيعته أيها الشيخ الفاضل لا ينام على مظلمة ولا يرضى بالذل والهوان، ولم أقرأ في كثيرٍ من الكتب التاريخية التي حكت لنا تاريخ العرب في أقدم عصورهم منذ الجاهلية أن عربيًا لم يستّل سيفه إذا ما انتهكت حرمة بيته وضربت نساؤه، فضلًا عن إراقة دمائهن (اسقاط الجنين). هذا بالعربي عامةً، فكيف برجلٍ قرشيٍ؟ ومن سادة بطون قريش (بني هاشم)؟ فكيف بابن أبي طالب؟ علي بن أبي طالب الذي صرع جميع حملة الألوية في جيش أبي سفيان وهم من صفوة المقاتلين من بني عبد الدار، علي بن أبي طالب الذي تقول أنت أيها الخطيب أنه قال: "لو اجتمعت عليَّ العرب والعجم لما ولّيت هاربًا"، تريد أن نصدّق أنهم تكاثروا عليه واستطاعوا أن يسحبوه بحبلٍ أوثقوه في رقبته واقتادوه خارج الدار؟!

8- ولا أنسى الوصية التي ذكرها الشيخ، والتي علّل بها سكوت الإمام على هذا الحدث الجلل، وهي حسب زعمه، وصية أوصى بها النبي ص، أمير المؤمنين ع، في حال هجوم القوم. ولا أطيل على القارئ، فجميع الصيّغ التي ذكرها الشيخ ليست واضحة الدلالة بأنها صدرت من النبي ص، بصدد هذا الأمر؛ بل هي في الحالة السياسية العامة، وإن أردت فقل إنها في شأن السلطة. بقرينتين أقول هذا القول: الأولى، لأن النبي ص، لو كان يقصد هذا الأمر؛ فإنه سيذكره وسيحدّده، ولا يوجد في المصادر الروائية، رواية معتبرة صرّح فيها النبي ص، بأمر الهجوم بالحيثية التي تُذكر في كتاب (سليم بن قيس الهلالي). الثانية: من سياق الأحداث التاريخية التي تلت رحيل النبي ص، ومن سياق الأحاديث التي أوردها الشيخ، نعلم بأنه كان يقصد لزوم الصبر وعدم حمل السيف، واتخاذ السلم في الشأن العام. وهذه هي المفارقة العجيبة، أن غالب الخطباء يؤكدون دائمًا على هذه الوصية ويذكرونها؛ حتى صارت مع مرور الزمن (من المسلّمات في الذهنية الشيعية).



عبدالرحمن علي
15 جمادى الآخر  1439هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة