أبوعدنان .. سيرةٌ بيضاء





    هذا المقال، وميضٌ متبقّي استطعت أن أرصده من الذاكرة، حول رجلٍ عاش وسط مجتمعه، أبًا لأبناء المجتمع، وأخًا صديقًا لأترابه. كان مقدّرًا لهذا المقال أن يكون سجلًا تاريخيًا لحقبة طويلة من عمر فقيدنا، إذ أبلغته قبل فترة بأنّني سأجلس معه لتدوين تجاربَه في حلّهِ وترحاله؛ غير أنّ الموتَ غيّبه عنّا، فأجدني مضطرًا أنْ استعين بمعاصريه لتدوين ما تبقّى في صدورهم من الذكريات، وليس أمامي في هذه الفترة إلّا الانتظار، حتى تغادرنا هذه الجائحة - التي اكتسحت المعمورة - ويستقر الناس، حينها سأدوّن أقوالهم تباعًا. وهذا المقال يحمل لمحاتٍ بسيطة، لم أتعرّض فيها لتفاصيل حياة فقيدنا؛ نظرًا لضيق الوقت وشح المعلومات، ولي في قابل الأيام مقالاتٌ سأفردها لأقوال معاصريه، ستكون أكثر تفصيلًا.


    يوم الخميس الحادي عشر من شهر ذي القعدة لعام 1441هـ، الموافق للثاني من شهر يوليو تمّوز  2020م، اخترم الموت في هذا اليوم عينًا من أعيان قرية الطرف، رجلٌ خاض تجربةً اجتماعية حريٌ بنا حفظها مدوّنة لتبقى تاريخًا يستفيد منه الأجيال القادمة؛ ذلك أنّ الأمة التي تكتفي بتناقل تراثها وأمجادها تناقلًا شفهيًا، تكاد لا تتعاقب الأجيال إلا ويضيع هذا التراث من ذاكرتها، لكنّ التدوينَ يحفظ التاريخَ من آفة النسيان.



    الحاج حسين بن أحمد علي الهزيم (أبو عدنان)، لا نعرف على وجه الدقة تاريخ ميلاده، ذلك أنّ مواليد الفترة بين ستينات وثمانينات القرن الهجري الماضي ليست مضبوطة، لكنّنا نستطيع تقريب سنة ميلاده بين العامين (1365هـ - 1367هـ)، وعليه يكون قد توفّي عن عمرٍ يناهز الخامسة والسبعين. وما بين سنتي ميلاده ورحيله، تجارب تستحق منّا الإشادة والذكر، لا أكتب هنا بوصفي أحد أحفاده؛ بل بوصفي مؤرخًا يوثّقُ التجاربَ البشريّة ويحتفظ بها لمن بعده.


    لعلّ أبرز التجارب التي خاضها (أبوعدنان)، هي تجربة (الحملدار) التي اكتسبها من أبيه الحاج أحمد بن علي محمد الهزيم (أبو حسين). هذا المصطلح ربّما يكون غير مفهومٍ لغير الخليجيّين، يطلق هذا المصطلح على من يقوم بمهنة إيصال الحجّاج والمعتمرين إلى المشاعر المقدّسة، فضلًا عن مشاهد وأضرحة أئمة الشيعة في العراق وسوريا وإيران ومصر. 


    لم تكن حملة الحرمين الشريفين، التي كان يديرها أبو عدنان، مشروعًا استثماريًا فحسب؛ بل كانت تمثّل حركةً اجتماعيّة جديرة بالتوثيق، فقد سجّلت هذه الحركة ملمحًا اجتماعيًا طيلة أكثر من أربعة عقود، ذلك أن الفترة التي يقضيها المسافر أثناء رحلته مع حملة الحرمين، كانت فرصةً لتلاقح الأفكار واكتساب الأدب والمعرفتين الدينيّة والدنيوية العامة، ففي الرحلة الأساتذة والأطبّاء والمفكرون والشعراء، ناهيك عن الطبقة الكادحة من الفلّاحين وأصحاب الحرف اليدويّة، ولهؤلاء - بلا شك - دورهم في الرحلة، ولا سيّما الطهاة منهم، الذين لازموا أبا عدنان ووالده من قبله في هذا المشروع الاستثماري ذي الصبغة الاجتماعية. فقد كان هؤلاء الطهاة - بعيدًا عن مهمّة الطهي- يجسّدون دورًا جميلًا في أثناء الرحلة وهو سلوكهم العملي غير المتكلّف، فلا يعدمُ منهم السائح انثيال الحكمة على ألسنتهم، ولا يعود من رحلته إلا وقد سمع منهم بعضًا من تجاربهم التي اكتسبوها من رحلاتهم الكثيرة.   


    ومن الجوانب التي تكاد تخفى على الآخرين، وبالكاد يُلتفتُ إليها أنّ أبا عدنان كان يراعي ذوي الدخل المحدود، ممن لا طاقة له على بذل المال في سبيل السفر، البعض من المسافرين كان يتّفق مع أبي عدنان بالدفع الآجل والبعض يقسّط المال عليه على دفعات، والبعض لا تسعفه القدرة الماليّة على السداد، لكنّ أبا عدنان، تعاطى مع هؤﻻء بسعة صدره وكرمه، وهذا ما جعل له في قلوب أبناء مجتمعه محبةً عميقة. 


    ولا يخفى على ذي لب، أن إدارة الجماعات البشريّة، ونظم أمرهم، لا ينهض به إلا ذوو الحلم والأناة، فضلًا عن حسن السياسة والتدبير، وقد امتاز أبو عدنان بهذه الصفات، في بيته قبل أن يمتاز بها خارجه، فقد أحسن أبو عدنان تنشئته لأفراد أسرته، التي تتكوّن من (ثلاثة أولاد وثمان بنات)، واستطاع أن ينهض بأسرة ابنه الراحل (أبو عادل) الذي اختطفه الموت في النصف الثاني من العام ١٤٢٧هـ، ولم تكن المسؤليّات الكبيرة التي يحملها على عاتقه وتقدّم سنّه عائقًا له عن مواصلة الميسرة لأسرة أبي عادل، بل نجح نجاحًا باهرًا في تنشئة أحفاده؛ ليكونوا بفضل الله من صفوة أبناء المجتمع، لهم دورهم في استمرار حركة التنمية والحضارة في وطننا الغالي.


    قبل رحيل هذا الرجل العظيم، اتفقت معه على أن يتم توثيق تجربته الطويلة في حملة الحرمين، وكانت هذه الخطوة باقتراح أحد الأصدقاء، وتم التأجيل من قِبله لظروفه الخاصّة، ثم حصل ما حصل مؤخّرًا وعاجله الأجل - ويا للأسف - فخسرنا برحيله وثيقةً تاريخيّة كنّا سنكسبها في أرشيفنا؛ ولا سيّما أنه - حسب تصريحه لي - قد عاصر آخر رحلة حج على الإبل، وضمن الأحداث التي حصلت في هذه الرحلة، ولادة إمرأة كانت معهم في الرحلة، وضعت حملها في طريق الإياب.






عبدالرحمن علي
2 ذو الحجّة 1441 هـ
23 يوليو 2020م

تعليقات

المشاركات الشائعة